السبت، 27 يونيو 2015

مع مثل هذه الشاكلة، كيف لي أن أقف؟

من أشد المواقف التي حصلت معي وسببت لي ضيقا وحزنا عميقين موقف كان قبل ثلاث سنوات مع إمام المسجد الذي لا يفصله عن بيتنا سوى أمتار قليلة. إنه مغترب وفقير أتى إلى بلادنا من أجل كسب رزقه وإطعام أهله. لكن لسوء حظه لم يحصل له ما كان يطمح إليه. فجمع له عدد من فضلاء الحارة راتبا شهريا بالكاد يكفيه وعائلته الصغيرة التي تسكن معه في مسكن الإمام الخاص بالمسجد. وأما أمه وإخوانه فهم في موطنه وحالتهم كما يقول جدا صعبة.
لقد كنت أجلس معه نتكلم في مجالات شتى نتجاذب أطراف الحديث. ولم يكن بيننا إلا المحبة والتقدير والاحترام كما كان يظهر لي. أحيانا كان بعد انتهاء الصلاة يجلس نهاية المسجد منزويا في أحد أركانه. لم أكن أخرج من المسجد حتى أسلم عليه إما بالمصافحة أو بالإشارة لأن حيائي يمنعني إلا أن أفعل ذلك. كنت أشفق عليه فأعطيه مبلغا من المال. وكان أول مبلغ أعطيته كبيرا. كنت إذا رأيته ماشيا وأنا أقود سيارتي آخذه معي وأوصله إلى بيته، وإذا رأيته حزينا مهموما سألته وسرّيت عنه. وإذا رأيته في الشارع بادرته بالسلام. خصصت له جزءا من زكاة مالي لما اكتشفت أن راتبه قليل جدا لا يسد حاجته، وقد كنت أعطيه قبل ذلك.
أمه سقطت فأصابها كسر واحتاجت إلى عملية، كان مهتما جدا لذلك وأراد السفر لترتيبات العملية. كنت أسأله عنها وأتعاطف معه. ذات مرة اتصل بي وقال: "أنا محرج منك جدا وأنت لا تقصر، أنا في ضائقة مالية"، فقلت له: "كم؟"، فذكر المبلغ، فقلت له: "بسيطة"، فذهبت وصرفت له المبلغ، فشكرني وقال: "جزاك الله خيرا"، ثم قلت له وكان يريد السفر: "إذا سافرت واحتجت هناك مبلغا آخر فاتصل بي سأحاول أن أجمعه لك من أخواني". فشكرني. سافر وهناك اتصل بي وكان محرجا مني كالعادة، هو لا يكذب، بالفعل هو في ضائقة مالية. فجمعت له وحولت له المبلغ. ثم رجع من سفره. فيا سحقا! لم يطرق باب بيتي ويقول لي: "جزاك الله خيرا". كنت قد تأكدت أنه لا يقابل الإحسان بالإحسان والاهتمام بالاهتمام والسؤال بالسؤال. كان يتجاهلني، كان لا يسأل مثلما أسأل ولا يبتدئ بالسلام مثلما أفعل. لقد تغيرت نظرتي تجاهه، وقل احترامي له. أنا لا أرضى الدنية، عزة نفسي تأبى ذلك، وأربأ بها عن أن تكون ألعوبة مستغَلّة. إذا كنت مهموما فأنا أيضا مهموم وإذا كنت تحتاج إلى السؤال فأنا كذلك. لماذا تأخذ وتأخذ وتأخذ؟! لماذا لا تريد أن تعطي أو تفكر أن تعطي؟! لماذا تريد أن يكون الاهتمام من طرف واحد؟ هذا غير مقبول بحال. أنا لا أريد منك شيئا غير إلقاء السلام. هل هذا الأمر صعب؟
مر يومان من بعد رجوعه من سفره. هل تظن أني سآتي إليك وأقول لك "الحمد لله على السلامة"! لا وألف لا! كنت حال انتهاء الصلاة أتعمد الخروج سريعا لأختبر معدنه. للأسف لم يكن ليأتي ويشكرني. تكرر الحال أكثر من مرة. لم يأتي ويطرق باب بيتي ولا حتى اتصل! هنا انتهى الأمر.
جاءت المرة الأخيرة، ترك مصلاه مسرعا ناحيتي، فجاءني وأنا خارج المسجد، سلم علي ثم شكرني على المساعدة، فقلت له: "أشكر أخواي فلان وفلان هما الذان ساعداك أنا لم أدفع شيئا" ثم أكملت طريقي إلى بيتي. ما شاء الله! ما شاء الله! ألا ترى أنك تأخرت؟! والصورة قد بانت واتضحت؟! إنني لو لم أصل في المسجد لما طرقت باب بيتي لتشكرني ولا اتصلت بي كما اتصلت حين احتجتني.
بماذا قوبلت من هذا المخلوق؟ ما الإحسان الذي وجدته منه؟ وأي جميل رده إلي؟ الجواب: يمر من أمامي ولا يسلم! يمر بجانبي وهو خارج من مصلاه ولا يسلم! بعد الصلاة أقرأ القرآن في المسجد يراني ولا يسلم! أخذت فترة من الزمن منقطعا عن المسجد ولا آتي إلا إلى صلاة الجمعة، وبعد الصلاة أجلس في الخلف نهاية المسجد أقرأ سورة الكهف وليس في المسجد من المصلين إلا عدد الأصابع، فيقوم هذا يغلق المكيفات والمراوح يراني لا يتنازل ليقدم ويسلم ويسأل عني!
كرهته وكرهت صوته وهو يؤذن أو يقرأ القرآن. فتركت الصلاة في المسجد لأني كلما أسمع صوته أو أرى وجهه أصاب بالغثيان. لم أعد أسلم عليه ولا أسأل عنه، فمثله لا يستحق إلا البصاق في وجهه. كلما أراه أشيح بوجهي. لكن أحيانا وللأسف لا أقدر بسبب دافع الحياء فأسلم. عبرت الأشهر وأنا منقطع عن المسجد وهو على حاله السيء لا يسأل! أما إذا احتاج إلى المال، تذكرني وأسرع بالاتصال بي وعليه آثار المسكنة يقول: "أنا محرج منك"، نعم صدقت! أنت محرج مني لطلب المال لكنك لست محرجا مني لعدم السؤال! كل هذه الأشهر الطويلة من القطيعة ليس فيه شيء من الإحراج!
جاء رمضان الثاني طرقت بابه وأعطيته زكاته الثانية مبتسما، أخذها هو مكفهرا وكأني أنا الذي أشحذ منه. لعل سوءا حصل له داخل بيته قبل أن يخرج إلي أو لعلني أيقظته من نوم عميق كان غارقا فيه. لا بأس! أنا لا أريد أن أعطيك شيئا تراه في وجهي كبرا أو تمننا حتى لا يضيع علي الأجر، إني أظهر لك ما لا أبطن. أما أنت فلم تعتذر في اليوم التالي عن وجهك الكالح حين استلمت الظرف!
جاء رمضان الثالث وهو رمضان الفائت وليس هذا، سألته: "هل لا زلت تحتاج إلى زكاة فأنا لي فترة طويلة لا أعرف عنك شيئا"، فقال وكله أسى: "نعم"، فقلت وأنا أسلم له الظرف: "أنت مسؤول أمام الله تعالى"، ثم ذهبت بسيارتي لمآرب أخرى، ولما عدت إلى البيت، إذا به يناديني وكأنه كان ينتظرني. قلت له: "نعم"، قال: "هل أغضبتك في شيء؟ هل أخطأت في حقك؟"، وأخيرا نطق هذا المخلوق! لقد تذكر شيئا! ثم قال لي: "لقد تغيرتَ علي -يقصدني- قرابة السنتين؟؟"، لاحظوا؟؟؟ يعترف يقول: "قرابة السنتين" سنتان من القطيعة!!! أي صفاقة هذه؟؟ أجاءتك حطام الدنيا لتذكرك بي؟؟!! إذن أين قلبك؟ أين عقلك؟ أين إيمانك؟ أين دينك؟ أين أخلاقك؟ أين إنسانيتك؟ أين ما تعلمته من آيات ربك وأحاديث رسوله التي تلقيها على مسامع الناس؟ ليس شيء من ذلك قرع جرسا أيقظ ضميرك الميت؟!

مع مثل هذه الشاكلة، كيف لي أن أقف!

اعتذر بشدة وحاول أن يقبل رأسي ثم قال حالفا: "إني أدعو لك في صلاتي"، فقلت له: "أنا لا أريد غير إلقاء السلام" ثم عاتبته بقوة وقلت: "كل هذه السنين؟ أنا ما أراك إلا وأسلم عليك وأسأل عنك وعن أهلك، أنا لا أريد بكلامي هذا أن أتمنن عليك لكن المسألة أخلاق" وكان جسمي يقشعر ويرتعش من هذا البوح بهذا الظلم.
سامحته في الظاهر إذ لم أستطع في الباطن. ظللت منقطعا عن المسجد ثم رزقت ببنت بفضل الله تعالى فجاءني يبارك. ما شاء الله! جميل جميل! أبعد خراب مالطا؟
قبل شهرين أو أكثر ماتت أمه التي كنت مهتما بالسؤال عنها، عرفت ذلك ولم أقم بتعزيته، وليقل عني كيف يشاء، إنه لم يعد يعنيني، أنا لا أعرفه وكفى! وحتى هذه اللحظة لا يسأل ولا أسأل!

هكذا الناس .. وللحديث بقية ..

هناك 4 تعليقات:

  1. حسنا هنا اراك قد اخطأت ، لماذا عندما تعمل الخير تريد من الاخرين ان يشكروك ؟!!!
    من المعروف ان المحتاج يرى صعوبه في النظر في عيني من ساعده
    وربما هذا الامام يشعر بنقصه وقلة حيلته كلما ما قابل المحسن الذي يحسن اليه دائما
    فكما انت تحس بقلة الثقه امام الاخرين وتتجبنهم فهو كذلك يلا يريد ان يحس بقلة الثقه امامك فكيف تريده ان يسعى اليك

    ردحذف
    الردود
    1. أخي الفاضل ما تراه فكرت فيه في السابق لكن وجدت الأمر لا ينطبق عليه. أنت لا تعرف الشخص بقدر ما أعرفه أنا. لماذا يطلب مني أكثر من مرة إذا كان يستحي!! لماذا نفسه استطاعت أن تطلب ولم تستطع أن تلقي السلام فقط!! يا رجل السلااااااااام!!! هل هناك صعوبة في إلقاء السلام؟؟؟؟؟ يمر من أمامي ولا يسلم!!!! إذا كان يستحي فلماذا لا أرى ملامح هذا الحياء عندما أسلم عليه!!

      حذف
  2. ربما كان يعاني من الرهاب :/ !هه

    ردحذف